المذهب المالكي
العلامة الأستاذ الدكتور عمر الجيدي
قال عنه : "كان شيخنا العلامة الأستاذ
الدكتور عمر الجيدي الغُماري الأصل من
بين الأساتذة الذين شرفت بالتتلمذ عليهم في دار الحديث الحسنية أيام عزها وتوالي
الخيرات والبركات عليها...كان الرجل علامة لا يُشق له غبار في المعرفة بتاريخ
المذهب المالكي قد ألف في ذلك كتبا نفيسة تعدُّ اليوم أصولا لا يمكن الاستغناء
عنها ولا تجاهلها...فهي مع قِدم عهد تأليفها وتقدم وفاة مؤلفها لا تزداد إلا نضارة
وجلالة وكأن مؤلفها قد ألفها من زمن قريب هيئت فيه أسباب الاطلاع على مصادر مالكية
جديدة، وتوافرت فيه همم الباحثين على دراسة المذهب المالكي في هذا الأفق
الغربي...و كان هذا الألمعيُّ من أنجب تلاميذ العلامة الأستاذ الدكتور فاروق
النبهان لطف الله به فهو كان مشرفه في رسالة الدكتوراه وكان منه قريبا ولديه
أثيرا....وكان شيخنا الفقيه الهُمام يدرِّسنا في الدراسات العليا بالدار العامرة
بالمبرَّات آنذاك آيات الأحكام...فيجلسُ لساعةٍ أو اثنتين يشرح الآية مستنبطا منها
الأحكام من حفظه وصدره لا يرجع في ذلك إلى ورقة ولا كتاب... وكان آية في معرفة تاريخ المذهب في المغرب والأندلس
يستحضر من حفظه أسماء فقهاء العُدوتين وتواريخهم وتصانيفهم..وقواعد
استنباطاتهم...كلُّ ذلك في سلاسة وسهولة وكأنه يقرأ من كتاب بين يديه...ولبث في
دار الحديث الحسنية معظم الشأن، موفور الاحترام، محبوبا لدى الباحثين من أولي
النجابة، مرجوعا إليه في فنه، مستشارا في تخصصه، مناقشا لرسائل علمية كثيرة...حتى
اخترمته المنية على حين غفلة - كهلا صغير السن، فرُزئنا فيه بل لقد رُزئ الفقه
المالكي في عالمٍ لو عاش لصار مجتهدَ المذهب، وفقيهَ العصر، وعلامة المغرب... وسقى
مضجعه وأثابه وجعل ما علَّم ونوَّر يلقاه يوم القيامة...[1]
البلاغة
والبيان والنحو
الأستاذ فوزي
المراكشي
إن ثراء لغة الشيخ ، و جزالة لفظه ، و عذوبة أسلوبه ، صادر عن نفس
شغوفة محبة للغة القرآن منذ الصغر . و تحديثا بنعم الله ، و شكرا لمن كان له دورا
مهما في تهذيب ذوق الشيخ و الأخذ بيده الى المعالي ، تحدث الشيخ عن تأثير أستاذه
فوزي المراكشي في مسيرته العلمية قائلا :
" كان
من أساتذتي الفضلاء الذين لهم عليَّ منة لا أنساها ما رفعت يدي قلما لتكتب، أستاذ
مراكشي الأصل بيضاوي المستقر لا أعرف من اسمه إلا هذا الاسم فوزي...أثبته معرفةً
لما كنت طالبا في السنة السادسة ثانوي في التوجه الأدبي الذي سلكته عن محبة ورضا
وأريحية...كان الرجل قد أوتي بسطة من علم وأدب، فلقد رُزق التبحر في علوم العربية
والتوسع في علوم الشريعة...مع الغيرة على الثوابت والذود عن الأصول...منَّ الله به
عليَّ إذ لمس فيَّ ميلا إلى الأدب وعشقا للعربية فأخذ بيدي إلى المعالي وهذَّب
فيَّ ذوقي..ورغَّبني في قراءة فصيح الكلِم، وأوقفني على عيون الأدب التي تُنشئ
مبدعا، وتُخرِّج أديبا...كان الرجل جماعة للكتب، عاشقا لشراء أعلاقها، يحدثنا في
الفصل الدراسي عن آخر ما قد اقتنى منها حديثَ المُحِبِّ الولهان، والعاشق
الصَّدْيان..فحبَّب إلينا ونحن يومئذ صغاَرٌ أغْرار الكتابَ، ورغَّبنا في شرائه واقتنائه...وكان
الرجل مؤلفا كاتبا يحدثنا عن تآليفه التي لم تتم بعدُ عن نقده لطه حسين وانتصاره
لأديب العربية والإسلام محمد صادق الرافعي...فتخرجنا نحبُّ أدب الرافعي ونعشق
كلماته، وننحو طريقته ونترسم خطاه...كان الرجلُ ينزِّل المتقدم فينا منزلته ولا
يغمطه حقَّه...وكنت أسعدُ بقراءة إنشائي أمام الطلبة وقد قدَّمه الأستاذُ على غيره
وميَّزه...ودارت الأيام وتوالت السنون وشققت طريقي في الجامعة متعلما دارسا...بيْد
أنني لم أنْسَ أستاذي فوْزي...كانت ثمراتُ ما قد غرسَ فيَّ
بادية، وغراس ما قد سقاه من أرضي يانعة باسقة..ظللت أذكر له ما قد أطلعنا عليه
من أسماء كتب انتقدت طه حسين ومذهبه في التوسع في الأخذ بحضارة الغرب وجنايته على
الأدب في شعره الجاهلي...وكنت دائمَ السُّؤال عن أستاذي ..لشدة اشتياقي إلى كلماته
المشجِّعة..حتى ظفرت منه بلقاء عابر بين كتبٍ يتجول في أروقة بيعها في المعرض
الدولي للكتاب بالدار البيضاء من أرض المغرب...فلقيت منه رجلا قد تغير حاله إذْ
طعنَ في السِّنِّ بعد شباب ظاهر، فعرَّفته بنفسي، فتذكرني بعد نسيان، وعرَفني بعد
أن غبتُ عنه سنين طويلة.. وقال:" أنتَ الذي تكتب في مجلة كذا
وكذا..."..فقلت له:" هذا غراسك، وتلك ثمرتك..فطبْ نفسا فلقد زرعتَ
فحصدت، ونصحتَ فأخْلصتَ..وسأبقى حسنتك الجارية..وصدقتك المعلومة ما أمسكتُ قلما
فكتبتُ أو تكلَّمتُ فحاضرتُ... [2]
و ممن درس على أيديهم و استفاد من دروسهم غاية
الإستفادة العلامةُ الأديبُ والمشارك الأريب مبارك العلمي ، ترجم له الشيخ
محمد قائلا : " كان شيخُنا العلامةُ
الأديبُ والمشارك الأريب مبارك العلمي من الأساتذة الذين تتلمذت على أيديهم أيام
التَّحصيل والطَّلب..كان الرجل يدرِّسنا البلاغة والبيان والنحو وما تفرَّع عن ذلك
من علوم اللِّسان في أواسط الثَّمانينيات من القرن الماضي في جامعة الحسن الثاني
كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بالدار البيضاء من أرض مغرب..ولقد كانت
الجلسة العلمية التي يكون فيها شيخنا الأديب نجْما فارسا من أحبِّ الجلسات إليَّ
وأكثرها فوائد أدبية ونُكات بيانية، إذ كان للرجل قُدرة عجيبة في استنباط المعنى
الدَّقيق من نصِّ آي الذكر الحكيم وحديث النبي مع جولات في رياض الفكر، وصولات في
مطارح الأدب...مع الغيرة على الدين، ودفاع عن حرماته، وذود عن حياضه..وكان لطف
الله به دائم الحث لنا على تعلم اللسان العربي يقول إنه سِرُّ فهم هذا الدِّين
ومفتاحه، ومدخله والمدرج إليه، فمن أحب العربية ونبغ فيها فلقد آمن قلبه وعرف لهذا
الدين فضله، وأدرك حقيقته وعظمته، ومن كان في كلامه عُجمة، وعلى لسانه لكنة، فهو
لا جرم بعيدٌ عن الفهم السليم لهذا الدين، كافرٌ بعظمته، وغير عارف بقدره...هذا
بعض كلام الشيخ الهمام والأديب الإسلامي الكبير...ولقد كان كلام الشيخ يصادف منا
قلبا خاليا فيتمكن، فنقبل على قراءة الكتب الأدبية والمجاميع الشعرية فجادت لذلك
منا العبارة...وفصُحت في لفظنا الإشارة ولله الحمد والمنة...ولذلك سهل علينا
اختبار الشيخ لنا فيما طرحه علينا من سؤالات..سالت لها منا الخطرات المقرونة
بالنظرات..فما كان منه إلا أن هنأ وشجع وبالدرجة العالية السامية أنعم...حفظ الله
شيخنا الأديب المرهف الحس الفهامة..وأدام عليه النعمة، ووالى عليه من أفضاله ...
" [3]
السلوك و الرقائق
كان الداعية الإسلامي مصطفى القبايلي
كان الداعية الإسلامي مصطفى القبايلي أحدَ
أعلام الدعوة والإرشاد الديني في الدار البيضاء من أرض مغرب الأمس...وكانت مجالسُ
درسه تُعقد في مسجد صغير يزدحم الناس فيه ازدحاما شديدا..لكي يستمعوا إلى الشيخ في
مواعظه ودروسه السلوكية التي ترقِّق القلب،وتُجدد الإيمان في الوِجدان...كان الشيخ
مصطفى القبايلي قد أوتي قَبولا في كلامه إنْ هو تكلم، كما قد أُضفي عليه من
الإخلاص في النَّصيحة والمبالغة في العِظة ما هو معروف ذائع الصِّيت...وكان الشيخ
جميلَ المحيا سريعَ الدمعة، يتأثر من قريب، ذا رهافة حسٍّ، وإنابة وخشوع...يقطُر
كلامه مواعظ مُبكية ورقائق مُشجية، وحكايات وأخبار مُعبِّرة...وكنتُ أحضر مجالس
الشيخ الواعظ- وأنا يومئذ شابٌّ يافع لم يطِر شاربي- عندما أشعر بقسوة في القلب
وشُحٍّ في العمل الصالح...فأَصْدُر عنها وقد استيقظ واعظُ الإسلام في قلبي،
وارتويتُ من معين مُسمى الإيمان ما شاء الله أن أرتوي...وكانت مواعظُ الشيخ تخرجُ
من فؤاده مُضمَّخةً بنور اليقين مُعطَّرةً بحلاوة الإيمان ونَضْرته...فتقعُ على
قلوب عطشى ونفوس ظمأى فتُحييها وترقِّيها وتَسقيها....وكان الشيخ يُفسح للحاضرين
في مجلسه مجالا ليستمع إلى أسئلتهم..فلربما سئل عن أمور مكررة ومسائل معلومة فلا
يعجبه الحديثُ عنها بيْد أنه يجيب السائل..ولقد شهدته مرة قرأ سؤالا من ورقةٍ
جاءته وهو على المنبر..فقال لو عرفتُ صاحب هذا السؤال لقبَّلتُ الذي فيه
عيناه...فما كان منه إلا أنْ قرأ سؤالا يستفسر فيه صاحبُه عن الفتنة الكبرى
وملابساتها وعن الحقيقة في الخلاف الذي شَجَر...فكان ذلك سببا لمُحاضرتيْن
مُحْكمتيْن لم أشهد مثلهما: قوةَ حجةٍ، ونصاعةَ بيان، وكشْفَ حقيقةٍ...وكان ذلك
أول عهدي بكتاب ابن العربي المعافري العواصم من القواصم...وكان شيخنا رجلا
بَكَّاءً لم أعرف شيخا مثلَه في سَيلان الدَّمعة، وجَريَان العَبْرة...وكان يخفي
ذلك ولا يُعلنه لكن ربما غلبه الحالُ فذرَفت عيناه وهو يعِظ، أو اسْتعبر وهو
يُذكِّر الناسَ...ولقد شهدتُّ جنازة الإمام العلامة تقي الدين الهلالي
ودفنه...فكنا نقول إنَّ الذي كان في الجنازة يُسمع لنَشِيجه وبكائه دويٌّ كدوي
النَّحل هو الداعية الإسلامي مصطفى القبايلي...ومِن سنين عديدة وأزمنة مديدة انقطع
عنِّي خبره، وغابتْ عن مسامعي أحواله ...كان الله له حيا أو ميتا...[4]
الدكتور محمد بشيري المغربي
ترجم له بالقول : " كان العلامة الداعية
الكبير الدكتور محمد بشيري المغربي أحد
أعلام الدعوة في مدينة الدار البيضاء..وكانت أخباره تصل إلي قبل أن أحظى منه
بمجالس علم لم أنس إلى اليوم أثرها وجدواها...كانت مجالس الشيخ الداعية تعقد بين
العشاءين في جمع غفير من الناس، يحضره الكبار والصغار، والعامة والخاصة، والمثقفون
والأميون، فيصدر كل هؤلاء عن هذه المجالس العلمية وقد ارتوى من عطش، وحيي من ممات،
وانتعش فؤاده وقد كان أصابه الرانُّ...كانت طريقة الشيخ في الدرس عجيبة لم أعقل أن
أحدا من شيوخي سلكها، كان الشيخ يبدأ درسه في التفسير أو السلوك والرقائق بمقدمة
قد تكون أعجب شيء في الدرس كله، كانت المقدمة بلسان عربي مبين وأحيانا بلسان قريب
من اللهجة المحلية..يُقبل الشيخ فيها على معالجة موضوع ٍكان مِلْءَ مَسمعِ ومرأْى
الناس في أسبوعهم الذِّي يودِّعونه، فلا يتركُ في الموضوع شاردة ولا واردة إلا ذكرها
وعرَّج عليها..مع طرْحٍ واقعيٍّ كاشفٍ، وتحليل موضوعي دقيق...وكانت هذه المقدمة
تشدُّ إليها أنظارَ الناسِ وتشرئبُّ إليها أعناقُهم..وكان ازدحام الحاضرين على
دروس الشيخ شديدا لم أر له مثيلا إلا في
دروس أبي بكر جابر الجزائري..وكان الدكتور محمد بشيري يصطحب معه مناشفَ يراه الجالسُ في درْسه يمسح
بها عرقَه المتصبِّب على جبينه من فينة إلى أخرى ومن حين إلى آخر....وكنت أرى
الشيخ من بعيد- من كثرة من يحضره- وأنا يومئذٍ شابٌّ صغيرٌ في مُقتبل العمر –
نحيفَ الجسم، ضعيفَ البِنْية، يبدو عليه أثر المرض والعلة...ومع ذلك كان إليه
المنتهى في العلم بالشريعة ودقائقها، ومقاصدها وأسرارها، يخصُّ العلمانيين بنقد
لاذع، وحطٍّ علميٍّ قاتل، ومباحثة ومناقشة...وما علمته ألف، وله دروس كثيرة مسجلة ومحاضرات معروفة ...ولعله قد
مات يوم مات في كهولة وصغر سنٍّ .. وأجزل جزاءَه وعامله بإحسان، وكتب أجر ما بلَّغ
ودعا في ميزان حسناته... [5]
الشيخُ الدَّاعية إدْريس الجَايْ
قال عنه : " كانَ الشيخُ الدَّاعية إدْريس
الجَايْ المغربيُّ إذا تكلَّم ذَا فصَاحة ظاهرة، وبيانٍ ساحِر، وحُجَّة مُقنعة..
وشاهدٍ حاضرٍ..حضرْتُ دُروسَه وخُطبه منْ أكثر من ثلاثين حِجَّة وأنا يومئذٍ شابٌّ
في أوَّل الطَّلَبِ – في مسجد الإيمان في الحيِّ المعروفِ في الدَّار البيضاء منْ
أرض مَغربٍ، فكان – من فَصاحته وبيانه
وتضَلُّعه في اللُّغة ..يقولُ عن نفسه لماَّ يقال له:" اشرح باللسان العامِّي"-
:" إنه إذا فعل ذلك سَقطَ شرْحُه، وضاقتْ عليه مناحي القولِ، ولم يبْلُغ ما
في نفسه..وقصَّرَ في الدَّعوة.."...ولقد كنتُ في يوم الجمعة رُبَّما جلسْتُ
قريبا من منبر خُطبته، فترمقُ عيني ورقةَ الخُطبة التِّي بيْن يديْه، فألاحظُ
الضَّرْبَ الذِّي في الورقة..كأنَّ الشيخَ
كان يختارُ فَصيحَ الكَلام وأبْلَغَه، ولا يَقنعُ بما يأتيه ممَّا هُو دُون
ذلك...وأعْقلُ أنِّي حضرتُه مرةً في آخر جُمعةٍ منْ رمضان في خطبةٍ عَصْماء
مُؤثِّرة..دارَ موضوعُها على ضَرورة اسْتِصحاب أجواء رمضان بعد انقضاء
الشَّهر..فأبْلغ في النُّصح والعِظَة،
وأكثرَ من البيان والشَّرح حتى أشْجى الحاضرينَ..فَودِدْنا أنْ لوْ لمْ يُغادِرنا
رمضان...رحمَ الله الشيخَ ومدَّ له في قبره لِقاءَ ما وعَظَ ونَصَح، ودعا وبيَّن..
[6]
القاضي الشيخ ُالزبُّير الحسني
قال عنه : " كان القاضي الشيخ ُالزبُّير
الحسني صاحبَ الدُّروس الرمضانية التي
حضرتُ كثيرا منها- ذا جلالة في النفوس ومهابة في الأفئدة، لكنه وإن كان ذا منْصب
خطير، ووظيفة عظيمة القدر- فإن ذلك لم يُدخل عليه عُجْبا ولا تيِهًا، فلقد اشتهر
بالتَّواضع الجَمِّ، والرِّفق بالناس، وخفْضِ الجناح، ولقد لمحْتُه غيْرَ مرَّة
عند تمام الدَّرس واقفا مع السائلين خارجَ المسجد يُجيبهم عن فتاويهم، وشاهدتُه
مرارا تسأله المرأةُ والمرأتان وأكثرُ في وقفةٍ خاصَّة بالنساء، فيجيبُ عن أسئلتهن في حِشمة واستحياء، ووقار وجلال.. [7]
كانتْ مجَالسُ العِلْم التِّي عقَدها القاضي الشيخ
الزبُّير الحَسَني في رمضان في المسْجد المُحمَّدي بالدار البيضاء مَجالسَ تذْكيرٍ
ووعظٍ وإصْلاحٍ..وكانتْ للشَّيخ فيها
طريقةٌ في التَّربية والتَّعليم مخصُوصة ٌقدْ تفرَّد بها فنفَذتْ دُروسُه إلى
القُلوب، وتمكَّنتْ مواعظُه في النُّفوس، ولقد شَهِدتُه مرَّة ً- وأنا يومئذ في
ريْعان الشَّبابِ- واقفا على مِنبر الوعظ( كرسي الدَّرس الصغير لا منبر خطبة
الجمعة) يشرحُ طريقةَ وضع الميِّت في القبر...وأنه لابأس برفع رأسِ الميت قليلا
بشيءٍ من الترُّاب كأنَّ ذلك وِسادة أبديَّة وُضعتْ للمتوفى..وأذكرُ أنَّ الشَّيخَ
كان يشرحُ ذلك وقد سَالتْ منه عَبْرة ٌأخفاها..فأشْجى الحاضرينَ،وأبْلغَ في عِظة
السَّامعينَ.. [8]
منْ ذكريات
شهر رمضان التي ما برحتْ مكانَها من ذاكرتي حضوري لدروس الشيخ القاضي الزبير
الحَسَني الشَّمالي المغربي..فلقد خلَفتْ حلقتُه حلقةَ الشيخ الواعظ أبي بكر جابر
الجزائري زمانا ومكانا..فكانت تُعقد في رمضان في فِناء المسجد المُحمَّدي..ومما
عَلِقَ منها بذاكرتي دُروس الشيخ في آداب
الجنائز..إذْ كان حديثُ الشَّيخ عن الموت مما تقْشعر ُّمنه الجُلودُ،وتلينُ له القلوب،
وتَذْرِفُ له العُيون.[9]
الشَّيخِ الواعظِ أبي بكر جابر الجزائري
قال عنه : " كانتْ مَجالسُ الشَّيخِ الواعظِ
أبي بكر جابر الجزائري في رمضان روْضةً للنَّاظرين وبهجةً للصَّائمين، إذْ كانتْ
تُعقدُ في فِناء المسْجد المُحمَّدي الوَاسعِ غيْر المسْقوف، الذِّي وقفَ عن يمينه
وعن يساره قُبَّتان أندلسيَّتان تتوسطهما خَصَّةٌ ( أنبوب النافورة) يجري فيها
الماءُ لوضوء المصلِّين..وكانتْ شمسُ الأصيل تُرسل أشعتها الذَّهبية على الفِناء
فتكْسُوه رونقا وبهاءً وحُسنا وجمالا، وكانت تلك الأجواء تمنعُ عن الصَّائمين
تسلُّل النُّعاس إليهم، كما أنها كانت مانعة من دُخول السَّآمة عليهم.. [10]
كانت مجالسُ الشَّيخ أبي بكر جابر الجزائري في
العلم في رمضان مدرسةً فكرية تعلَّمنا فيها صحةَ الاعتقاد، وإخْلاص العبادة لله،إذ
كان الشيخ يعرض فيها لما قدْ شابَ المعتقدَ في العصور المتأخرة من باطل وبُهتان،
ولقد حَضَرْتُ الشَّيخَ مرَّة ًيحكي عن نفسه أنه لما كان فتيَّ العُود تأخذُه
أمُّه- هكذا قدَّرْتُ إذِ العهدُ بعيدٌ بالحكاية- إلى سيدي بوعقبة القريب من بلدته
للزيارة والتبرك.. يحكي الشيخُ ذلك ذامًّا له مُنفِّرا منه.. [11]
الذكرى الأولى
كان من عادة الشيخ الواعظ أبي بكر جابر الجزائري أن
يزور المغرب الأقصى في كل رمضان، فيعقد في حلقة عظيمة في المسجد الجامع الموسوم
بالمسجد المحمَّدي بدرْب الأحباس بالدار البيضاء- مجالس للتفسير، فكنا يومئذ
شَببةً صغارا نتشوف إلى مقدم الشيخ، ونلزم مجلسه، ومما عَلِق في ذاكرتي من تلك
المجالس المنِيفة، تفسيره لقوله تعالى:" وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر
الإنسان وأنى له الذكرى" حيث أورد الشيخ ما قد تبث في الصحيح من طريق ابن
مسعود:" يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك
يجرونها". [12]
الذكرى الثانية: وصْل ما قد انقطع عن الشيخ
أبي بكر جابر الجزائري كانَ الشَّيخ الواعظُ الكبيرُ أبو بكر جابر الجزائري في تلك
المجالس الرمضانية المنيفة يتراءى لي – وأنا يومئذ في فتَاء السِّنِّ، ومُقتبل
العُمر- مُنوَّرَ الشَّيبة، بهيَّ الطَّلعة، مُشرق المحيا، قد كساه الله من حُلل
القَبول وأضفى عليه من أسراره ما قد جمعَ عليه قلوبَ السَّامعين المنصتين لدرْسه،
ولقد كانت الجَلبَةُ تعمُّ مجلسَ الدرس – لكثرة الحاضرين- قبل حضوره، فما هوَ إلا
أنْ يظهرُ الشيخُ صاعدا منبرَ الدَّرس حتى يلُفَّ المجلسَ وقارُ الشَّيخ، وتغْشاهُ
هيْبة ُالعِلْم، ويغْلُبُ عليه جَلالُ ما يُتلى من آي الذِّكْر الحكيم.. [13]