مشائخ الدكتور في علم الحديث
الأستاذ
الدُّكتور محمَّد الرَّاونْدي : " كان شيخنا المحقِّق المدقِّق الأستاذ
الدُّكتور محمَّد الرَّاونْدي شفاه الله من الأساتذة الذين شرُفت بالتَّلمذة عليهم
في رِحاب دار الحديث الحسنيَّة في عُهود عزَّها العلميّ ومجدها الأدبيّ في أواخر
ثمانينيات القرن الماضي...كان الرَّجل واسعَ الاطلاع جمَّاعة للكتب، ذا تدقيقٍ
وتحقيقٍ، ونقدٍ وتعليقٍ، واعتراضٍ وتنكيتٍ، لا ينفكُّ من كتابٍ بيْن يديه يأتينا
به في مادة الحديث وعلومه – يعلِّق عليه، ويدْفع في صدْر مؤلفه وهو كثيرٌ، أو
يُثني عليه ويرفع من قدره وهو قليلٌ..مع سعة المعرفة بمخطوطات الكُتب وأماكن
وجودها...وكان لطف الله به كلَّما جاءه من نُسخ الكتب الحديثية كتابٌ أتانا به
وأوقفنا عليه، ودرَّبنا على قراءته، والكشْف على أوهام منْ حقَّقه أو أغلاطه
وسَقطاته، وكانتْ مجالسُ درْسه لا تخلو من فوائد جديدة نجتنيها، أو عوائد طريفة نقتطفها،
فكنَّا لدرسه نشتاقُ، ولمجلسه نطربُ ونرتاح...ولقدْ تعرَّفتُ على شيخنا لأوَّل
مرَّة في مُباراة الوُلوج إلى دار الحديث الحسنيَّة ...إذْ سألني أسئلة شفوية
فأجبتُ عنها بما حضرني ثم علمتُ بعدُ أن ذلك كان سببَ ظَفَري في المباراة...ومن
يومئذ توثقتْ علاقتي بشيخنا فكنتُ أراجعه لعاميْن من التكوين في الدَّار العامرة
بالقرآن والحديث يومئذ – فيما أشْكلَ عليَّ من عوِيصاتِ المسائل وأخبار الكتبِ
مخطوطِها ومطبوعِها فيُفيدني الفائدةَ التي يعظُم النَّفع بها...ولمَّا تأهلتُ
لهذا الشأن أشْركني في المُناقشة والإشْراف على بعض الرَّسائل العلميَّة...كما
أنَّه أثنى على بعضِ ما ألَّفتُ وانتقدَ بعضَ ذلك...حفِظَ الله شيخنا الأستاذ
الدُّكتور الكبير..معلِّم الأجيال ومُلحق الصغار بالكبار... " [1]
الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي ، قال الدكتور :
" كان من الشيوخ الأكابر الذين شدوت عليهم طرفا من العلم الشرعي شيخنا
العلامة محمد بن عبد الرحمن المغراوي حفظه الله...كان الشيخ يدرسنا في الدراسات
العليا مادة أنسيتها لطول العهد- لعلها المكتبات-...فيأتينا من مراكش إلى الرباط
المغربية حيث كنا ندرس في وحدة الحديث وعلومه التي كان يشرف على إدارتها شيخنا
الهمام فاروق حمادة...ولقد كنت أرى الشيخ السلفي الكبير يأتي بهيئة تنبئ عن حال
مسافر آت من بلدة بعيدة...وكنا نتحدث فيما بيننا أن شيخنا كان يأتينا من مراكش
راكبا القطار حاملا حقيبة ملأى بالكتب..فيجلس في مجلس الدرس تحفه الكتب ذات اليمين
وذات الشمال...فيصدر عنها بعلم وافر، وأدب رفيع سام...ولم ينشب الشيخ أن انقطع عن
المجيء إلى الرباط..فلم نظفر منه إلا بمجالس قليلة معدودة، ولعل ذلك كان لبعد
الشقة بين مراكش مستقره وبين الرباط حيث سوق العلم نافقة وقلوب شداته به
خافقة...ومما أعقله من مجالسه المنيفة دفاعه عن آراء شيخ الإسلام ابن تيمة ونهوضه
في ذلك نهوض من كان يدور حيث دار شيخ الدعوة- السلفية الزكية البهية في الزمن
المتأخر..ولذلك كثر الانتفاع به وعمَّ الخير على يديه بما حاضر فيه وكتب وألف...
" [2]
الدكتور فاروق حمادة ، قال : " كان
شيخنا المحدث الأستاذ الدكتور فاروق حمادة السوري الأصل المغربي الدار من بين
شيوخي الذين شرُفت بالتَّلمذة عليهم في الدِّراسات العُليا في رباط الفتح في كلية
الآداب -المُصاقبة لباب الرواح الشهير- في أيام نهضتها وريادتها في البحث العلمي
الرصين في أواخر ثمانينيات القرن الماضي...كان الشيخ العلامة المحدِّث جليلَ القدر
عظيمَ الشأن ذا هيبة ووقار...عالما مطلعا ذا فصاحة وبيانٍ يخوض في غير ما علمٍ
وألَّف في أنواع منه...لكن العلم الذِّي غلب عليه وعُلمت له شهرة فيه علم
الحديث... ولقد ألف فيه كتابه النافع الماتع :" المنهج الإسلامي في الجرح
والتعديل"..وكان الشيخ المحدِّثُ كثيرَ الذِّكر له، لا يفتأ يُعدِّد فضائله
ويصفُ من منهجه وكبيرِ عائدته، وأنه سلك فيه طريقة جديدة بحيث كانت كتب المصطلح
القديمة تبدأ بالكلام على الصحيح والحسن والضعيف، وتؤخِّر مباحث الجرح والتعديل،
فجاء العلامة الشيخُ فقلَب الأمر فبدأ بمباحث الجرح والتعديل التي ستُثمر بعدُ
التصحيح والتحسين والتضعيف...وكُتبُ الشيخ المحدث كثيرة وعظيمة النفع مرجوعٌ إليها
ككتابه عن مصادر السيرة النبوية وتقويمها وخطبة حجة الوداع وتحقيقه لكثير من كتب
النسائي وغير ذلك...وكان الشيخ العلامة لا يعرفني قبل سنوات التخصص لأني قدمتُ
الرباط من الدار البيضاء طالبا العلمَ في مرحلة الدبلوم...فيسر الله لي النُّجحَ
في الاختبار الكتابي وظفرت بالرتبة الثانية...وكان الاختبارُ الشفوي يومئذ من
مكملات الاختبار الكتابي...فدخلتُ على الشيخ المحدِّث خائفا وجِلا لهيبته وجلالته-
فجلستُ بين يديه منتظرا أسئلته، فبدأني الشيخ بقولٍ لم أكن أتوقعه، ولا حلُمت به
إذ قال لما رآني وعلِم مكاني وعرف اسمي:" لقد نجحتَ يا فلان رغم
أنفي.."...فسُقط في يدي، فَلَلْأرضُ التي أقفُ عليها أرضٌ ولا السماءُ سماء...
وشرع الشيخ المحدث في اختباري وانهالت عليَّ أسئلته من هنا وهناك..وأنا أجيب بما
وُقفتُ إليه حتى إذا رأى الشيخُ أنْ قد تبين له الصبحُ قال لي:" أنا متوقفٌ
في حالك..." فدخل في تلك اللحظات شيخنا العلامة المفكر الكبير محمد الأمين
الإسماعيلي حفظه الله...فسأله شيخنا المحدث عني– وقد علِم أنه خبيرٌ عليمٌ بطلبة
الدار البيضاء ونبهائها- فأجاب شيخنا الإسماعيلي وكان يعرفني:" وكيف لا أعرف
طالبا درس عليَّ في الدار البيضاء.."..ومنَّ الله عليَّ بعدُ بالظفر في ذاك
الاختبار بدرجة حسنة..وتوثقتْ علاقتي بشيخنا المحدث فكان المشرفَ عليَّ في رسالة
دبلوم الدراسات العليا التي حققت فيها اليواقيت والدرر للمُناوي في تحقيقٍ حافل
قبل أن يحقق الكتاب في عدة جامعات عربية أخرى، وخروجه منشورا بدهر طويل...وأفدت في
رسالتي تلك من تعقبات الشيخ العلامة ونظَراتِه علما وأدبا كما أفدت من شخصيته هدْيا
وسمْتا وحسن معاملة... وأشرف الشيخ العلامة على مئات الرسائل العلمية وانتشر
لتلاميذه ورواد مجالسه ذكرٌ حسن في الآفاق...وغدا طلبته النبهاء أساتذة في
الجامعات المغربية وغيرها...حفظ الله شيخنا العلامة المحدِّث وجزاه خيرا على ما
علَّم ودرَّس وأشرف ونصَح ووجَّه وجعل ذلك في موازين حسناته يوم لقاء
ربِّه..."[3]
العلامة المحدث الأصولي النظار محمد بن حماد
الصقلي .
قال عنه الشيخ محمد : " كان شيخنا العلامة
المحدث الأصولي النظار محمد بن حماد الصقلي
الفاسي مولدا ومدفنا المغربي بلدا ووطنا من المشايخ الذين شرفت بالتلمذة
عليهم في دار الحديث الحسنية التي كانت معمورة بالهدى والعلم والرشاد في ثمانينيات
القرن الماضي...كان الشيخ العلامة معروفا بلباسه التقليدي المغربي..يختار غالبا
لُبس البياض منْ جلباب وطربوش..مع نظارة سوداء يضعها على عينيه لعماه وذهاب
بصره..وكان الشيخ الوقور يأتينا إلى الرباط حيث الدار العامرة – دار الحديث -
بخُلاصة العلم يومئذ وأكرمه وأغلاه وأنْفسه – من مدينة فاس تسوقه زوجته تحوطه
بالعناية والرعاية...وكان درْسُ الشيخ لنا معاشر الطلبة المسجلين يومئذ في
الدراسات العليا في تخصص: القرآن والحديث،درْسَ مصطلح الحديث من خلال ألفية
السيوطي في هذا الفن، فكان للشيخ شرحٌ عليها لم يكمله جمع فيه كل فن، فأفاد وأغنى
عن مراجعة غيره من المطولات والمختصرات...وفي الحق كنا يومئذ لا نفهم عن الشيخ
كلامه في بعض الأحايين إذا نزع فيه إلى التدقيقات المنطقية، والتفاصيل اللغوية
المغرقة في استجلاب الخلاف والأدلة وتحرير محل النزاع..فكان الشيخ تعالى ربما فطن إلى ذلك منا فأعاد الشرحَ حتى
نفهم ويستقر المعنى في قلوبنا وتعيه أفهامنا....وكان الشيخ العلامة خريِّج جامع القرويين جاريا في مضمار العلماء
حافظا للنصوص، واسع الاطلاع على الأقوال ومآخذها..قد كُسي بالجلالة وأحيط بالمهابة
وسُجِّي بالقَبول...فما نذكره إلا اطمأنت منا النفوس..واستقامت منا الأفهام... "[4]
العلامة الأستاذ عمر محسن - الشيظمي .
قال عنه الشيخ محمد : " كان العلامة الأستاذ
عمر محسن - الشيظمي أصلا على ما أرجحه- البيضاوي دارا ومستقرا المغربي وطنا
وبلدا..من أهل العلم الذين جالسناهم ونحن شببة صغار..كان الرجل معروفا بجمال
قراءته وعذوبة صوته، فكنا نحرص على الصلاة في المسجد الذي يؤم فيه المسلمين لصلاة
التراويح...وعرف العلامة حفظه الله بكونه خطيبا مميزا ذا نبرة معروفة ولغة فصيحة
بليغة...ولقد حضرتُ قديما حلقات درسه فأفدت منها علما وفهما وفصاحة وبيانا...وكانت
أول معرفتي بالعلامة تعود إلى الصِّغر إذ كنت ألمحه يزور شيخَنا المقرئ الإمام
سيدي أحمد حنيف الشيظمي فيجلسان يتحدثان
في سيارة العلامة ما شاء الله لهما...ولما توفي شيخُنا المقرئ كان العلامة في
طلائع موكبه الجنائزي..ولقيتُ العلامة مرة في مسجد النور بالدار البيضاء من أرض
مغرب الأمس، قائما على المنبر خطيبا يوم الجمعة...ولما منَّ الله عليَّ بالتَّخصص
في هذا العلم الشريف كنتُ أراجعُ العلاَّمةَ في بعض ما كان يستعصي عليَّ فهمُه
فسألته يوما عن قول الحاكم أبي عبد الله في المستدرك:" على
شرطهما..."...فأمسك عن الجواب...وكان رائحا إلى الدرس..فلما انتهى مما كان
أعده، عرَّج على سؤالي مجيبا وهو يرمقني بعينه من بعيد...أطال الله عمر الشيخ
العلامة المقرئ عمر محسن ونفع به المسلمين... "[5]
المحدث الأستاذ الدكتور زين العابدين بن محمد
بلافريج .
قال عنه الشيخ محمد : " كان من شيوخي الأعلام
ممن انعقدت الأفئدة على محبته شيخنا المحدث الأستاذ الدكتور زين العابدين بن محمد
بلافريج الرباطي أصلا ومحتدا البيضاوي دارا ومستقرا المغربي بلدا ووطنا...ولقد
عرفت الشيخ المحدث زمانا في أيام الصبا وفتاء السِّن...عرَّفني به خالُه قريبي..وأحضرني مجلس درْسه الذي كان يعقده في
شرح صحيح مسلم عقِب صلاة العشاء بالمسجد الكبير بالسُّويْقة بالرباط في المدينة
القديمة وكان الشيخ حينئذ طالبا في كلية الحديث بالمدينة النبوية..فكان كلما جاء
في الإجازة الصيفية زائرا أهلَه جلس ذاك المجلس فحدَّثَ...ودار الزمان وتقلبتِ
الأيام...ومنَّ الله عليَّ بطلب هذا الشأن فكنتُ طالبا في كلية عين الشق بالدار
البيضاء من أرض مغرب الأمس..وفي السنة الثانية من سنوات الدراسة الجامعية دخل
علينا الفصل الدراسي رجلٌ طُوالٌ لابسا المعطف العصري في بهاءِ أهل العلم، وسناءِ
أهل الحِجى والوقار...فكان مُدرِّسَنا لمادة الفكر الإسلامي من خلال كتاب العقيدة
الطحاوية التي كان يسردها من حفظه...وكان ذاك الداخل هو شيخنا المحدث العلامة زين
العابدين بلافريج...ودرَّسنا الشيخ الهُمام القراءات القرآنية، إذ كان الشيخ حفظه
الله صاحب صوت ندي، وأداء حسًن، ودرَّسنا الشيخ العلامة العلمَ الذي ملك عليه
شغافَ قلبه الحديثَ وعلومه والتخريجَ وطرائقه...وكنا في تلك الفنون نفيد منه
علما...كما نفيد منه خلقا رفيعا وأدبا جميلا وهديا وسمْتا...وحبَّب إلينا الشيخ
الحديثَ وزيَّنه في قلوبنا، وألقى في روعنا أنه العلم الذي سيُطوى بساطُه في هذا
الزمان، وأنه ينبغي أن نسعى فيه سعيا حثيثا.. وبين يديه تدربْنا في الذود عن حياض
الحديث والدفاع عن الشريعة والانتصار لثوابت الأمة وهويتها ودينها، وكان الشيخ
حفظه الله مُشرفي على بحثي في الإجازة..وامتدت بيننا حبال الوصال بعد الإجازة فكنت
أزوره في داره العامرة ..وأدخلني مرات عديدة مكتبته الزاخرة بشريف
المطبوعات...وأوقفني فيها على نوادر ثمينة وأعلاق نفيسة لا تقدر بثمن...وشرُفت
بمناقشته لبحثي الحديثي لنيل دبلوم الدراسات العليا ...وكان حريصا على أن تكون
نتيجة المناقشة الميزة الحسنة مع التوصية بالطبع...ولما منَّ الله عليَّ بتسجيل
بحث الدكتوراه كان الشيخ المحدث الهمام مشرفي على البحث متابعة وإفادة ودفاعا
وذبا...وسعى في التعجيل في مناقشة الأطروحة سعيا لما قد جرى فيها من التأخير
الظالم الذي خالف فيه رئيسُ المؤسسة الأعراف الجامعية والقوانين المعمول بها في
هذا المجال...فكان الشيخ الهمام في كل ذلك نِعْم الناصح المدافع المحافظ على حقوق
الطالب، حتى أتى الفرجُ وهُزم الظلمُ، وانتصر الحقُّ...ومناقب شيخنا العلامة كثيرة
لا تنعدُّ وأفضاله على جيل من طلبة العلم لا تكاد تحصى، وتخرَّج على يديه طوائف من
الباحثين، وكان سببا في جريان الخير على كثير من الناس...وأشرف على رسائل وأطاريح
كثيرة...وألَّف وحقَّق كتبا كثيرة...وله خطب منبرية معروفة ودروس وعظية مسجَّلة
محفوظة...وأقوالٌ وعبارات ٌ كأنها الحكمة معروفة...حفظ الله شيخنا المحدثَ الهمام
وأبقاه ذخيرة لأهل المغرب، إذ أحيا الله به وبأمثاله من المشايخ – في هذا الزمان-
رُسومَ الحديث في هذا الأفق الغربي...وبعَثَ به سيرة حفاظ أعلام كانوا في هذه
الديار...فهو في المتأخرين كالأصيلي في المتقدِّمين....[6]
القاضي العلامة المحدث محمد الرافعي .
قال عنه الشيخ محمد : " تعرَّفتُ
على القاضي العلامة المحدث محمد الرافعي المغربي مصليا في جامع حيِّنا المعروف
بمسجد الأندلس، وكان الرجل يومئذٍ لا يكاد يعرفه أحدٌ وكأني قدَّرتُ وأنا شابٌّ
يافعٌ أنه لم تكن له شهرة معروفة، ولا صوتٌ مسموع عند الناس...وما نشِبتُ بعدُ حتى
رأيتُ العلامةَ جالسا على كرسيِّ الدَّرس والتعليم شارحا الجامع الصحيح للإمام
البخاري، أو مُدرِّسا لرياض الصَّالحين للإمام النَّووي...لقد كانتْ مجالسُ درْس
العلاَّمة الرَّافعي مجالسَ عِلْم عالٍ ومسارحَ أدبٍ رفيع، يُذكر فيها الحافظُ ابن
حجر الشارح الكبير للبخاري النِّحرير، والعينيُّ الحنفي الناقل منه فوائده،
الزائدُ عليه نكاتٍ وُفِّق إليها، كما كان يُذكر فيها العلمُ الذي قد يكون غريبا
عن أفهام العامة الذين لا يد لهم في مُباحثة ولا مدارسة ومع ذلك تقع لهم الفائدةُ
بعد الفائدة، والمعلومةُ بعد المعلومة...بيْد أنَّ ذلك كان يُثلج صدرونا نحن معاشر
طلاب الكلمة النبوية ممن يبحث في الشريعة الإسلامية..وكانت عبارة الشيخ العلامة
علميَّة المنحى، ذاتَ فصاحة وبلاغة، وبيان ونصاعة وإشراقة...ولقد اشتهر العلامة
المحدث بمحبته للكتب وتهمُّمه بها، وولعه بجمعها، حتى كان ساريا بيننا أنه قلَّ
كتابٌ مطبوعٌ إلا وللعلامة منه نسخةٌ ..وكان الشيخ ربما فاته كتابٌ قدْ حُدِّث أنه
موجودٌ عند فلان من أهل العلم..فما يزال الشيخ بعدُ مجتهدا في طلبه حتى يُمكَّن
منه، فيقرُّ به عينا، ويسكن قلبا وقالبا ويُسرُّ غاية السرور عندما يقول لبعض منْ
كان يحضره من أهل العلم:" الكتاب عندي، ولي منه نسخة، وحصَّلته بأخَرة والحمد
لله"...وكان يقال لنا ونحن يومئذ شَببةٌ أغْرارٌ إن الرافعي كان له رجالٌ من
تجار الكتب يعرِّفونه بجديد المطبوعات...فلا يكاد يغيب عنه منها شيءٌ...ولقد سعدت
يوما كان من غُرر أيَّام حياتي إذْ لقيتُ الشيخَ العلامةَ في بيته العامر
بالخيْرات في مجلس خاصٍّ ومحْفَل لا يحضره إلا خاصة الخاصة..فكان الشيخُ ذا زهادة
وتواضع، وإنابة وورع، كثيرَ الفوائد، غزيرَ العوائد، واسعَ الاطلاع، ريانَ من
الأدب، بحرا ثجاجا إليه المنتهى في حفظ المتون والنصوص و الحِكم والأمثال
والأشعار..قد ضربَ في كلِّ فنٍّ بسهم وافر، وأعيى في ذلك مِن أقرانه وأترابه كلَّ
سابق ولاحق...وأذكر أني حدثته في ذلك اليوم السَّعيد أنني عاكف على تحقيق اليواقيت
والدرر للزين المُناوي في رسالتي العلميَّة لنيل الماجستير، فشَدَّ على يدي
مشجِّعا ومُثنيا وأطْراني بما شاء الله ...والرجلُ بعدُ واضحُ الأثَر والتأثير في
شباب أيامي وفي طلبة العلم أمثالي...لا يكاد يجهله منهم أحدٌ قد كُتب له القبول
بينهم فما مِن واحد منهم إلا له للشيخ زَورةٌ، أوْ قد حظي منه بلقاء....ثم انقطع
عني خبر الشيخ مذ اختار الهجرة والظعن عن بلده...[7]
المحدِّثَ الأستاذ
الدُّكتور يوسف الكتاني ، و هو من مشايخ
الشيخ بالإجازة .
ترجم له قائلا : " قُدِّر لي أنْ أعرْفَ
شيخَنا بالإجازة المحدِّثَ الأستاذ الدُّكتور يوسف الكتاني سليلَ الأسرة الكتانية
المعروفة بالعلم والحديث - في أيام الفُتوَّة ومَيْعةِ الشباب- من خلال ما
تُدبِّجه يراعتُه من مقالاتٍ ودراساتٍ مُتقنةٍ في مجلَّة دعوة الحقِّ المغربيَّة
الغرَّاء، ومجلَّة الإحْياء المغربيَّة في حُلَّتها القديمة البهيَّة، ثمَّ لمَّا
تخصَّصْتُ في هذا الشَّأن، وشَدوْتُ طرفا منْه خاصًّا بهذا الأفقِ الغربيِّ
وعنايةِ أهله بالجامع الصَّحيح للإمام البُخاري ازدادت صلتي ببحوث الشيخ الدكتور
فيما كتبه عن" مدرسة الإمام البخاري في المغرب"، و" عبقرية الإمام
البخاري"، ولما تأهلتُ في هذا الفنِّ واشتدَّ عُودي فيه وشرعتُ في كتابة
الدراسات عن الصحيحين في الأندلس، كانت بحوثي تنشر مع دراسات الشيخ الدكتور في
مجلتيْ دعوة الحق والإحياء، فتعرَّف عليَّ الشيخُ
وراسلني راغبا إليَّ في المشاركة في إحدى ندوات جمعية الإمام البخاري التي
كان بها قائما، كاتبا إليَّ بعضوية الجمعية، ثم توثقت صلتي بالشيخ فلما عزم على
إصدار أول مجلة علمية في المغرب في دراسات " السنة النبوية " كتب إليَّ
راغبا في أن أكون من هيئتها الاستشارية، فلبيتُ طِلبته شاكرا، ولما أخرج الشيخُ
كتابه في" معاني كلمات صحيح البخاري" راسلني أنْ أكتبَ عنه في مجلة دعوة
الحق، فكتبتُ مُستجيبا حفيًّا بكتابه، ثم امتدت صداقتنا العلمية إذْ دَعاني الشيخُ
إلى داره العامرة بأنوار الحديث ضمن أعضاء اللجنة الاستشارية لمجلة السنة النبوية
فرأيتُ من أخلاقه ما قد أدهشني، إذْ كان الرجلُ متواضعا في عِزَّة جنابٍ، شريفا
حسِيبا، كريما سَمْحا، ذا نشاطٍ زائدٍ مع كِبر سنِّه، صاحبَ ذاكرة حاضرة مع علُوِّ
قدْره، وتوالتْ أعداد مجلة السُّنة النَّبوية الغرَّاء الميْمونة التِّي كانتْ
كتابَ عُمُر الشيخ وحجته التي قدَّمها بين يدي ربه، ومن عجيب ما قدْ وُفّق الشيخُ
إليه فيها أنْ كتبَ مقدمات أعدادها مُقابلةَ الحُجرة النبوية في المدينة
المنوَّرة، تيمُّنا بأنوار النبوة، واقتباسا من سَنائها وبهائها، وكان الشيخُ سمْحا بالإجازة لمنْ طلبها، ولقد رغبتُ إليه
فيها فَمَنَّ وأجابَ وكتبَ إليَّ بها في رسالةٍ جلَّ قدْرُها، وفصُح أسلوبُها،
واتَّصلتْ أسانيدُ الشَّيخ فيها من والدِه المُسنِد إلى الإمام البخاريِّ سيِّدِ
هذه الصَّنعة وأميرِها، وكانَ الشيخُ حفيا بي غايةَ الحفاوة، لا ينفكُّ سائلا
عنِّي، كاتبا إليَّ، يحثُّني على الكتابة في مجلَّته الغرَّاء، حتى إذا لاح له مني
عزمٌ فاترٌ، توالت عليَّ كلماته تحضُّني على الكتابة، حتى إنه كتب إليَّ يوما
قائلا:" أنا لا أتصور أن أُصدر عددا من المجلة خاليا من بحثٍ من بُحوثك"،
ونهض بالتقديم لكتابي:" نضْرة أهلِ الحديث في بحوث ودراسات في كتب وأعلام
الحديث" فكَتبَ فيه من غُرر عباراته، وبليغِ أسلوبه ما أشْرقَ به الكتابُ
ونَوَّرَ وأزْهرَ، ورغِبَ إليَّ الشيخُ في
آخر عمره أن أكتبَ ضمن كتاب التكريم الذِّي صدَر عنه في حياته كلماتٍ في حقِّه،
وعباراتٍ في شخْصِه، فلبَّيتُ طِلْبتَه جذْلانَ فرِحا، فسُرَّ الشيخُ وتهلَّل،
وفرِح واستبْشر، وبالجُملة فلقد كان الشيخُ
واحدا من أعلام الدرس الحديثي المغربي في العالم، رائدا في ذلك، معتزا
بثقافته المغربية الإسلامية، مدافعا عن دينه منافحا عن ثوابته، مُتواصلَ العطاء عن
الإمام البُخاري لاهجا بذكره، كأنما خُلقَ في هذا الزمان لهذا الشأن .... ف رحمة
واسعة وعوَّضنا خيرا.. [8]
العلامةُ عبد الباري بن الصّديق الغُماري
كان شيخُنا العلامةُ عبد الباري بن الصّديق
الغُماري الطنجيُّ المغربيُّ نسيجَ وحْدِه في حفظ الحديث، يجلس يُمليه كأنه يقرؤه
من كتابٍ بين يديه، لا يتحبَّس ولا يضطربُ، فيسوقُ راويه ثم ينصُّه نصاًّ، ثمَّ
يرجعُ إليه شارحا ولمعانيه مُقرِّبا، وبهذه الطريقة سَمعنا عليه الجامع َالصحيح
للإمام البخاري إلا فوتا يسيرا منه...وكان الشيخُ
تعالى دائمَ اللَّهَجِ بالحديث كأنَّ السُّنةَ على طرَف لسانه يختارُ منها
ما يشاءُ في معرض الاستدلال والاحتجاج...وكان من محبته للسنة وعلومها، وللحديثِ
وفُنونه، قد أخرج قديما – وكنتُ يومئذ شابا يافعا- جريدةً في صفحات يسيرات
سمَّاها:" السنة" ما نَشِبت أنِ اختفتْ وطواها النِّسيانُ بعد صُدور
أعداد قليلة منها، بيْد أن التاريخَ الدَّعويَّ في المغرب قد عرفها للشَّيخ فهِيَ مِن مَكرُماته وأياديه البيضاء على
النَّهضة الحديثية المُعاصرة في هذا الأُفُق الغربيِّ من العالم الإسلامي، ولقد
وُهبَ الشَّيخ ُنضْرة َأهل الحديث وسِيمَاهُم، فكان بهيَّ الطَّلعة ذا جمالٍ ظاهر،
و إشراقٍ باهر، وكانَ ُ مُتواصلَ الدُّروس في مساجد الدار البيضاء ومنها مسجد
الحمْراء الذي كان عامرا بأنوار علمه..وكانَ الشيخُ – نوَّر الله قبره- قليلَ
الانقطاعِ عن مجلْس الدَّرْس لا يغيبُ إلا لِماما..ومنْ حرصه على الإفادة أنَّه كان رُبَّما جاء إلى الدَّرس
وبِه علَّةٌ...فلقد سمعتُه مرةً يقولُ إنه حضَر إلى الدَّرْس مع أنه يجدُ ألمًا في
أنْفه وفِيه، وأنَّ ذلك يحولُ بينه وبين الكلام والحديث...إلا أنه آثر أن يحضر
محبةً في إفادة الناس، وأُنسًا بما في صحيح البُخاري من حديثٍ وأثر...وكان ذلك
بعدُ تَقدمةً لعلَّته المعروفة التِّي ألْجأته إلى الجِراحة...رحمَ اللهُ الشَّيخَ
المُحدِّثَ الكبيرَ عبد الباري بن الصّديق وأسْكنه جنات النعيم ...وجعلَ ما حدَّث
به وأفاد، وروى وعلَّم بينَ يديْه يوم القيامة شفيعا...[9]
المُحدِّث الدَّاعية عبد الباري بن الصّديق
الغُماري .
ترجم له الشيخ محمد بالقول : " كان شيْخُنا
المُحدِّث الدَّاعية الكبيرُ عبد الباري بن الصّديق الغُماري الطَّنجي
المغربي قبل أكثر من ثلاثين سنة خطيباً
مِصْقعا..يعتلي المنبرَ بلا ورقةٍ يخطب في الناس بتُؤدة ورويَّة كأنَّه يقرأ من
كتابٍ بين يديه.. يُقبل على موضوع الخُطبة مُحلِّلا دارسًا مُستشهدا له بالآي
والحديث، مُستوفيا له مِن ْكلِّ جوانبه..وكنَّا نتحدثُ يومئذ أنَّ فينا مَنْ كان
يخرجُ من عند الشَّيخ حافظا للخُطبة، وما كان سمِعها إلا منْ مرَّة ٍواحدةٍ...وكان
الشيخُ إلى ذلك لا يُشقُّ له غُبارٌ في
الصَّدع بالحقِّ، والتَّعليقِ على أحْداث الأسْبوع..حتَّى سَرى بيننا نحنُ
المُستفيدين أنَّ الشيخَ كان يُلازم
مطالعةَ الصُّحف والمَجلاَّت، فيأخذُ منها أخبارَ ما كان يعرضُه يومَ الجُمعة في
الخُطبة...ومنْ كمالِ مِنهج الشَّيخ في
خُطبة الجمعة قِصَرُها ووجازتها على تمَامها واسْتيفائها للغَرض المَنْشود..ومنْ
خصائصها التي لم أجد لها نظيرا عند غيرِه تخصيصُه الخُطبةَ الثانيةَ للنِّساء،
فيعظهُنَّ ويتوجَّه إليهنَّ بالحديث في نفْس موضوعِ الخُطبة الأولى، وهذا من
أعْجبِ ما وُفِّقَ إليه الشيخُ سقى الله مضجعه وأنارَ قبره... [10]