مشايخ الشيخ في القراءات و التفسير
فتح
الشيخ محمد عينيه في مدينة الدار البيضاء ، و هي يومئذ تعج حلقات العلم ، و بأفواج
من العلماء في شتى المجالات العلمية ، و اكتحلت عينه بزيارة المكتبات العامة و
خزائن العلم التي نهل من نفائس محفوظاتها و كتبها .
أقبل
الشيخ محمد – و هو يومئذ شاب في بدايات الطلب – يتلمس حلق العلم و
الذكر في مساجد المدينة . ليروي عطشه و يشبع نهمه .
و
من المجالس التي كانت محببة الى قلب الشيخ محمد : مجالس الدرس القرآني من قراءات و
تفسير و تدبر.
و
من درس على أيديهم علماء كبار منهم :
1.
الشيخ أحمد حنيف :
ختم عليه السبع نظرا في المصحف. و أخذ عنه القراءات. و بعض علوم القرآن الكريم . و
قد كان رحمه الله عالما حافظا لكتاب الله ، متقنا للقراءات ، اليه المنتهى في
معرفة المتشابه من القرآن .
ترجم له الشيخ بالقول :
"
ارتبطتْ تراويحُ شهْر الصِّيام والقيام عندي شابًّا يافعا بإمام مسْجد حَيِّنا
بالدَّار البيضاء من بلاد المغرب الأقصى سيدي أحمد بن الجيلاني حنيف الشَّيَظْمي
المغربي، فلقد كان الرجلُ آيةً في الحفظ
للقرآن الكريم، إليه المُنتهى في معرفة المتشابه من آياته وألفاظه وحروفه، قد فاقَ
في ذلك أهلَ مِصْره، وبذَّ فيه أصحابَ فنِّه...واشتهر ذلك بيْن الناس فكانوا يُؤثرونَ
الصَّلاةَ في المسجد الذِّي يكونُ فيه على غيره من المساجد..وكان قد رُزقَ الشيخُ
الإمامُ الحافظُ حظًّا وفيرا من علْم القراءات، وعليه تَلَوْتُ القرآنَ الكريم –
بحمْد الله- بالسَّبْع وبِهِ تمرَّستُ فيها..واجتمعتْ في هذا الإمامِ الحافظِ
رحمهُ اللهُ خِصالٌ نَدُر – فيما أعلمُ- اجتماعُها في حافظٍ للقرآن مُرتِّلٍ..فلقد
كانَ لسانه رطْبا بالقرآن..يقرؤُه بكرة وعشيا لا يَفتُر..وكان جوادا كريما ذاَ بذل
وسخاء عظيميْن..وكأنَّ هذا تصْديق ما قَدْ نُقلَ في شرْح حديث كوْن النَّبيِّ
صلَّى الله عليه وسلَّم في رمضان كانَ يُدارسه جبريلُ القرآنَ، وأنه كان بعْدُ
أجودَ بالخيْر من الرِّيح المُرْسَلة.. "[1]
2- الحافظُ المُحدِّث عبد الباري بن الصّديق
الغُماري . كان رحمه الله ممن ينقطع في رمضان الى تفسير القرآن و تدبره .و قد
كان الشيخ محمد ممن يحرص على حضور هذه المجالس المباركة .
قال حفظه الله : " كان منْ عادة كثيرٍ منْ أهل
العِلْم في المغرب قبْل ثلاثين سنة أو يزيد – في رمَضاَن، أنَّه إذا هَلَّ
الهلالُ، أمْسَكوا عمَّا كانوا فيه منْ دُروسٍ في مناحي العلْم، واشْتغلوا بالتَّفسير
ومُدارسة القرآن..يذهبون إلى أنَّ هذا الشَّهرَ شهْرُ القرآن، فلا ينبغي أن
يُشْغلَ الناَّسُ بغيره..ولعلَّ لهم فيما قد رُوي عن مالك بن أنس نَوْعُ اسْتنانٍ
واتِّباعٍ..وكان منْ مَشايخي الذِّين يلزمون هذا الهدْيَ شيخُنا الحافظُ المُحدِّث
عبد الباري بن الصّديق الغُماري ُ تعالى، فإنني حضرتُ له- أيامَ الشَّبيبة
والفُتوَّة- دروسا في التَّفسير في عدَّة مواضع في رمضان..وكان الشيخُ مُلازمًا في سائر الأيام- كما هو معروفٌ
مشهورٌ- شرْحَ الجامعِ الصَّحيحِ لإمام الدُّنيا في الحديث محمَّد بن إسماعيل
البُخاري، ومنه سمعناهُ – مع فَوْتٍ يسيرٍ- غضًّا طريًّا. "[2]
3 - الشيخُ العلوي الصُّوصِي ،
العالم المفسر
قال عنه الشيخ محمد : " كان الشيخُ العلوي
الصُّوصِي المغربيُّ من بيْن المَشايخ الذِّين نَدُورُ عليهم ونحنُ شَببةٌ صِغارٌ
قبل أكثر من ثلاثين حَوْلا..وكان الشيخُ متواضعا مُنبسطا للناس..جاءته الدُّنيا
بأَخَرةٍ فلم تشْغله عما كان فيه مِنَ السَّعي في حوائج النَّاس وقضَاء
مصالحهم..وكان في دُروسه في مسجد الأندلس
بالحيِّ المعروف بالدَّار البيضاء من بلاد المغرب الأقْصى- متميِّزا بالوُضُوح في
عبارته، حَسَنَ التَّفهيم لمعاني ما يُلقيه على السَّامعين، دائمَ التَّكرار لما
يعرْضُه من مسائل وقضايا حتى كنَّا نَحفظُ تلك المسائل مِنْ مجالس السَّماع عنده
ولا نرجعُ فيها إلى كتابٍ بعدُ ..وكانَ درْسُ التَّفسير أحبَّ الدُّروس إلى قلْب
الشَّيْخ..إذْ برَع فيه أيَّما براعةٍ ..وكان الشيخُ غوَّاصاًّ على دقائق المعاني
البيانيَّة في التفسير، مُعجَبا بصنيع الزَّمخشري فيها..وأعْقِلُ مرةً أنَّه في رمضان عَرَض للخِلاف في تحديد ليلة القدر..فأوْرد
عنْ بعضِ السَّلف أنَّه اسْتخرج تحديدَها من قوله تعالى في سُورة القدْر:"
هي"، إذْ هي الكلمة ُالسَّابعةُ والعشرون من السُّورة الكريمة.. "[3]
انتقل الشيخ محمد الى مدينة الرباط للدراسات العليا
، و واصل طلبه للعلم بنهم شديد ، كيف لا و مدينة الرباط يومئذ في عهد عزها العلمي
و ريادتها في البحث العلمي . فدرس الشيخ على كبار العلماء و الأدباء . و منهم :
4- العلاَّمة ُالأستاذ ُالدُّكتور الشَّيخُ
التهامي الراجي الهاشمي المغربي .
قال عنه الشيخ محمد :
من أعلامِ أساتذة القراءات والدرس القرآني في
المغرب الأقصى لهذا العهد العلاَّمة ُالأستاذ ُالدُّكتور الشَّيخُ التهامي الراجي
الهاشمي المغربي، ولقد كانت أول معرفتي به قديما- في مُقتبل العمر ويفاعة السنِّ-
في برنامج على التِّلفاز لعله كان في كلمات عربية أو شيئا شبيها بهذا- أُنسيتُ اسم
البرنامج لطُول العَهد- ثم غدوتُ بعدُ أقرأ له مقالاته العلميَّة في مجلَّة دعوة
الحق ومجلة المناهل ومجلة دار الحديث الحسنيَّة في إصْدارها الأوَّل المُميَّز،
ولم يُقدَّر لي أنْ ألقاه إلا وأنا طالبٌ في مرحلة السنة التمهيدية في دبلوم الدراسات
العليا في جامعة محمد الخامس بالرباط، إذْ كان الشيخ الدكتور حينئذٍ يُدرِّسنا
القراءات السَّبع ضمن تخصُّص السُّنة وعلومها، ولقد كان أمتع الله به ماهرا في
القراءات، حافظا لها، مُحيطا بما في متن الشاطبية، متضلعا في علم التوجيه، مع ما
قدْ عُلم من تقدُّمه في علوم أخرى كاللسانيات والعربية والمعرفة ببعض اللغات
الأخرى كالفرنسية والإسبانية وغيرهما، وألَّف الشيخُ الدُّكتور مؤلفاتٍ كثيرة،
وحقَّق كتبا معروفة، وكان صاحبَ برامج إذاعية في القرآن ورسْمه وضبْطه معلومة،
وأشرفَ على عشرات الرَّسائل العلميَّة في جهات مختلفةٍ من أُفقنا المغربي، كما
أنَّه تخرَّج على يديْه طلبة ٌ كثيرون هم اليومَ ممن تصدَّر للتَّدريس في الجامعات
المغربية المعروفة... وتميَّز الشيخُ الدُّكتور بحُسْن المظْهر وجمال الملْبس،
وبظُهور شارَة الجلالة ونَقاء المخْبَر... وأعْقِلُ أنَّ الشيخَ الدُّكتور كانَ له
درْسٌ حَسنيٌّ بينَ يدي الراحل الحسن الثاني، قد أبدى فيه الشيخُ اطِّلاعه الواسع
على لغات أجنبية، كما أبدى حفظه الله تعالى تضلعه من القراءات، و من عجيبِ ما قد
اتَّفقَ له في أثناء الدَّرس أنْ وُفِّق في تقليد بعضِ أصوات طلبةِ القرآن عندنا
في المغرب عندما يقرؤون آياتِ العِقاب والعذاب، وآيات النَّعيم والرحمات إذْ
يغيِّرون اللحْنَ في الحاليْن بين الاستبشار والاستنفار، فأُعجبَ به الملكُ لذلك
فكان ذلك سببَ تعيينه أستاذ كرسي القراءات في مسجد الحسن الثاني بالدَّار
البيضاء... ولقد تعرَّفتُ مِنْ سبعة عشر حِجَّةً قد خلتْ على الشَّيخ الدُّكتورِ
عن قُرْب في مُناقشة رسالة الدكتوراه التي كان أحدَ أعضاء تقويمها، وكان الشيخُ قد
أبدى إعجابَه بالرسالة كما أنه قد أبدى تعقباته التي أفدت منها، ولقد أخبرني
المشرفُ على الدُّكتوراه شيخُنا المُحدِّث الأستاذُ الدُّكتور زيْن العابدين
بلافريج حفظه الله بعدُ أنَّ للشيخ الدكتور يدًا بيْضاء في أن تكون ميزتها باهرة
بعد أن أسْكتَ مُفحِمًا عُضوا من أهل الفلسفة- بعيدا عن التَّخصُّص- قد فُرض في
أعضاء مُناقشتها للتَّشويش على نتيجتها - عُومِلَ مَنْ صنع ذلك بما يستحقُّ- ولقد
لقيتُ بعد ذلك الشَّيخَ الدُّكتورَ في بعض المجالس الرسميَّة التي كنَّا نُدعى
إليها...فكان يغمرني بحفاوة اللِّقاء ويخصُّني بالعناية والاهتمام...بارك الله في
عُمر شيخنا الأستاذ الدكتور ورزقه الصحة والعافية، ولقَّاه نضرة وسرورا يوم لقاء
ربه ومولاه.. [4]