الانتصار للقرآن الكريم في رحاب كليات الشريعة وأقسام الدراسات الإسلامية
لم يكن من السَّهل على النظرياتِ الحداثية المعاصِرة أنْ تبثَّ سمومَها في حقل الدراسات القرآنية بين دارسيها ومتعاطيها، لأنه قد نشأ لها علمٌ قديمٌ حديثٌ يرصد ما تقذفه من عشرات الشبهات والأراجيف التي تسوِّقُ لها تحت مسميات كثيرة منها: «تجديد مناهج النظر في علوم القرآن»، و«الاجتهاد في فهم الخطاب القرآني»، و«تطبيق مناهج العلوم الإنسانية الحديثة في تفسير الظاهرة القرآنية» وهلُمَّ جرًّا من هذه الشعارات التي تخلب لُبَّ الغِرِّ المبتدئ، وتُسيلُ لُعابَ الباحثِ الشادي!
وتحركتْ هممُ الباحثين المنتصرين للكتاب العزيز، تُواجه الخطرَ الدَّاهمَ الذي يهدِّد علومَ القرآن الكريم، وقواعدَ تفسيره وبيانِه، ومناهجَ فهمِه والعمل به، وهي التي أفنى أجيالٌ من العلماء أعمارهم في تقعيدها وتأصيلها، وأبْلوا فيها أجسامَهُم، وقدَحوا فيها زِنادَ أفكارِهم اقتباسًا من نُور الكتابِ الثاقبِ، واهتداءً من مشكاة السُّنة المشْرقة المشرَّفة.
لقد بُذلتْ جُهودٌ مشكورةٌ، وصُرفتْ أوقاتٌ من العُمر محمودة، واستُنزفت عُصارة أفكارٍ ثاقبةٍ في سبيل الردِّ على شُبهات الطَّرح الحداثيِّ المعاصِر مع المستشرقين المعاصِرين، أو مع العلمانيين من أبناء العربية المنبهرين، فكُتبتْ في ذلك مؤلفاتٌ، ودُبجتْ فيه أبحاثٌ ومقالاتٌ، وأقيمتْ من أجله معاركُ فكرية معروفة، ومناظرات تلفازية مشهورة، وانْعقدتْ فيه مُؤتمراتٌ وندواتٌ محلية ودولية معلومة، فتجمَّع من ذلك تراثٌ لا بأس به من المعلومات التي يمكنُ توظيفُها في الرَّدِّ والانتصار، والمناقشة والتعقب والاعتراض، وغدا سِجلُّ هذا العلم في هذا العصر زاخرًا، ومناحي القول فيه متشعبة ضافية بما بُيِّن فيها من عُلوم هذا العلم وشُروط المتصدِّر فيه، وشُبهات الخصومِ ومناهج تفكيكها وتحليلها، وسُبل الردِّ والاعتراضِ عليها وإثبات عوارها وضعفها.
ومضى زمانٌ كانت وسائل الاعتراضِ على الشُّبه محصورة، ووسائل الرد على الأراجيف معدودة، إذ وظَّف المتصدِّرون لهذا العلْم كل تقنية حديثة في سبيل الوصول إلى غاياتهم حتى أُفردتْ له في المواقع العلمية الإلكترونية مساحات، وخُصِّصتْ فيه صفحات ومُدوَّنات، وغدا شأنُ هذا العلم بين الباحثين من ذوي المشارب المختلفة معلومًا معروفًا، وذائعًا مشهورًا.
وإذا كان هذا هو حال هذا العلم في هذا العصر، وتلك هي مواصفاتُه، فهل حقَّق ثمراته المرجوَّة فانحسرتْ موجةُ الهجمات على دراسات السَّابقين للقرآن الكريم، وهلْ توقَّفت شبهات الحداثيين تجاه قواعد التفسير ومناهجه التي أصَّلها علماء التفسير، وساهمَ معهم في ذلك جهابذة الأصوليين من الدارسين، وهل غدا طلبتُنا وشُداةُ العلْم فينا في مأمنٍ من الأراجيف محصَّنين، وتوقفتْ آلة النشر والطبع عن إصدار الدراسات الجديدة المتناولة النص الشرعي تناولًا شانئًا كما يتناول أيُّ نصٍّ أدبي ينتمي إلى البشر؟ وهل توقَّفتْ أو كادتْ سِهام بعضِ الباحثين «المتنوِّرين» عن تسديدها إلى صرْح علم التفسير، وعلوم القرآن المبين؟
وإذا كنَّا نجزم قاطعين بأنَّ علم الانتصار للقرآن الكريم في العصْر الحديثِ قد انتفعتْ به طبقاتٌ من الباحثين الكاتبين تحليلًا للشُّبهة ودحضًا لها، وردًّا للباطل ودفعًا له، فإنه ينبغي الاعترافُ بأنَّ هناك مجالات لم يكتسحها هذا العلم، أو طرَقها ولم يمعن في استغلالها وتوظيفها.
ومن هذه المجالاتِ مجالُ الدَّرس الجامعيِّ في كليَّات الشريعة والدراسات الإسلامية، وكلياتِ الآداب التي تُعنى في أقسامها بتحليل النَّص القرآنيِّ ومقاربته مقاربة لسانية حديثة، إذ كان من المتوقع وقد توطدت دعائم هذا العلم تأصيلًا وتقعيدًا وتأليفًا أن يكون له في المقررات الجامعية دروس معلومة، ومباحث معروفة، بينما الملفت للنظر في الدرس الجامعي الشرعي اليوم أن بينه وبين هذا العلم في بعض البلاد جفوة من جهتين: جهة المدرس المتصدي للتدريس، وجهة الموجِّه الجامعي المتصدي لاعتماد المقرَّرات وللمواد.
فبالنسبة للجهة الأولى يُلاحظ أن في بعض الكليات الشرعية وأقسام الدراسات الإسلامية في بعض الجامعات العربية والإسلامية من الأساتذة المتصدرين للتدريس والتعليم منْ يتبنَّى نظريات الطرح العلماني على تفاوت في التبني والاحتضان.
وهذا الضربُ من الأساتذة لا يجد حرجًا في الإعلان عن نظرياته وأطروحاته وإن كان حاملًا لشهادة علمية شرعية من جهات شرعية أيضًا، وهو يدَّعي أنه بما يفعله يُسدي إلى الدراسات القرآنية المعاصرة خيرًا، ويُنقذها من الترَّدي ويسْعى في التطوير والتحديث!
ولقد شاهدنا من هذا النوع وبلغَنا من أحواله ما يُبكي ويُشجي، ويبعث على الأسى والنَّدم، إذ كيف يؤتمن هؤلاء على جيلٍ من الباحثين الشرعيين الذين لا يعلمون ما يحاك ضدَّ قواعدهم الشرعية المؤصَّلة في التفسير وعلوم القرآن من الشبهات والأراجيف لأن سقْف معرفتهم محدود، والرقيب مفقود، والجو مُواتٍ للتفريخ والبلادُ قد صوَّحَ نبتُها فلا منافس ولا مناقش ولا متعقِّب!
وترقَّى هؤلاء الأساتذة «الشرعيون الحداثيون» إلى درجة الإشراف على بحوث جامعية شرعية تروِّج لأطروحات جديدة في التفسير، وتتبنى نظريات حداثية في علوم الكتاب المبين، ويكون هؤلاء الأساتذة في لجان للتقويم الجامعي تمنح شهادات شرعية، أو في لجان للاعتماد الجامعي تُستشار في تأسيس مسار دراسي أو تبنِّي اتجاهٍ علميٍّ في ماجستير أو دكتوراه!
وكمْ هي الشُّبهات التي يروِّج لها هؤلاء «الأساتذة الشرعيون» تحت أعذار كثيرة منها السَّعيُ في التخفيف من حدة الهجمة الحداثية ضد قواعد التفسير، ومنها الاستفادة من مناهج العلوم الحديثة التي توصَّلَ إليها إنسانُ القرن العشرين في فهْم القرآن الكريم بدعوى أنَّ السقفَ المعرفي للقدامى كان محدودًا!
ومنها أنَّه يجبُ أنْ نخرج بِشرْعنا قرآنًا وسنَّةً إلى العالمية الرَّحبة الواسعة، وهذا الخروجُ يجبُ أنْ يكون بمناهج العصر وعلوم هذا الزمانِ وهي التِّي يحسِنها «المستشرقون» وتلاميذهم من «الحداثيين العرب» ممن يقتاتُ على موائدهم!
وبالنسبة للجهة الثانية، فإنه يجب على الموجِّه المتصدِّي لاعتماد المقررات الجامعية الشرعيَّة أن يُعنى باقتراح موضوعاتٍ متصلةٍ بالانتصار للقرآن الكريم في دروس مادة علوم القرآن، ومادة التفسير وما يتصل بهما من مواد تخدمهما، لأنَّ التحدي جسيم، والخطب عظيم، وأيُّ خطبٍ أعظمُ من أن تكون حصوننا مهددة من داخلها، وأن يكونَ بيننا أساتذة في كليات الشريعة وأقسام الدراسات الإسلامية منْ يهدم أصول التفسير وقواعد علوم القرآن التي تعلَّمها طالبًا شاديًا، واختُبر فيها قبلَ زمان التَّصدر والزعامة العلمية!
إنَّ مهمة المنتصِر الشَّرعيِّ الجامعيِّ أستاذًا متصدِّرًا كان أو باحثًا في رسالة علمية لنيل الدرجة أو للوصول إلى الترقية - جسيمةٌ من حيث أنَّه مطالبٌ بالعناية بشبهات «الأستاذ الشرعي الجامعي الحداثي» رصدًا لها من الطلبة الناقلين لها أو المعجبين بها، أو من خلال ما يجري في جلسات المؤتمرات والندوات التي تُعقد في رِحاب الكليات من محاورات فكرية تُبثُّ فيها السُّموم، وتروَّج فيها المفتريات دسًّا في صور منمَّقة، وخُطط مدروسة.
إنَّ الذِّي يخشى منه من «الأستاذ الشرعي الحداثي» المتصدِّر للتَّدريس في الكليات الشرعية أو أقسام الدراسات الإسلامية بخصوص الترويج لنظريات جديدة في التفسير وعلوم القرآن الكريم وتبنِّيها والدفاع عنها - لَعظيمٌ، لأمرين اثنين:
الأول: عِظَمُ موقع «الأستاذ الشرعي الحداثي» في الجامعة من حيثُ أنه مؤثِّرٌ في طُلاَّب العلم، موجِّهٌ لأفكارهم، بانٍ لكثير من قناعاتهم الفكرية ونظرياتهم العلمية.
الثاني: غلبةُ الظنِّ الحسَن بـــــ«الأستاذ الشرعي الحداثي» إذ يميل كثير من سامعيه ومتابعيه من الطلبة وغيرهم إلى الثقة به، فهو في صورة منتصر هادم، ومخاتل مدافع، وحداثي سلفي، وقديم معاصر، يراوح بين القديم والحديث، ويلتفتُ بعين إلى الماضي وعينه في الحاضر، يقرأُ «التراث» بقناعة جديدة، ورؤية حديثة، وأيديولوجية مُستعارة، وعلوم إنسانية يرُاد لها أنْ تكون عالمية شاملة للنصوص الربانية، والنصوص البشرية!
إنَّ على المنتصر الشرعي الجامعي أن يكون مسلحًا بأحدث النظريات الحديثة التي يُراد «تجربتها» على النص القرآني معرفةً بها وإحاطةً بتفاصيل جزئياتها، حتى يسْلمَ له الدفاع عن قواعد التفسير وعلوم القرآن التي يجادل فيها زميلُه الشرعيُّ في الكلية أو القِسْم أو الشعبة، وإذا كان مستحبًا له أنْ يباشر الاعتراضَ على الطَّرح الحداثيِّ الذي يجيء من «العلمانيين الحقيقيين» من تخصصات معروفة بـ«الثورة» على القديم، و«التمرد» على الموروث العلمي الحضاري للمسلمين، فإنَّه يتوجب عليه أولًا وقبل كل شيء أن يناقش الزميلَ الشرعيَّ المستلبَ، ويدحضَ بالدليل نظرياته، وينتصر لما قدَّمه الأسلافُ المجتهدون من قواعد التفسير وضوابط التأويل التي اقتبسوها من أصول محْكمة قعَّدوها وأرْسوها، وذلك لسببين اثنين:
الأول: الخشيةُ مِن أنْ يسعى «الأستاذ الشرعيُّ الحداثي» سعيًا حثيثًا في تكوين جيل من الباحثين الشرعيين الذين مُسخت أفكارُهم، وتسمَّمت قناعاتهم، فهم ليسوا شرعيين مائة في المائة فيؤمن جانبهم، وليسوا حداثيين فتتقى بحوثهم ويحذر منها.
الثاني: اتقاء شماتة وفرح «الحداثيين الحقيقيين» بما يصْدُر عن «الأساتذة الشرعيين المستلَبين» من متابعة لطرحهم المعادي بخصوص علوم القرآن وقواعد التفسير.
وعلى المشرفين على الكليات الشرعية وأقسام الدراسات الإسلامية مهمةُ السهر على انتقاء الأستاذ الشَّرعي الجامعي انتقاءً يراعي قناعاته الفكرية ومُيولاته العلمية التي ينبغي أنْ تكون مُنسجمةً مع العلم الشَّرعي الذي دُرِّسَ، حتى إذا بدا على الأستاذ نوعُ ميلٍ أو جُنوح ٍإلى الطرح الحداثي نُوقش وتُعُقِّب حتى يثوبَ إليه رشدُه، ويفيءَ إلى ما عليه الإجماعُ وفيه الاتفاقُ.