المعركة تحت راية البخاري...للدكتور العلامة زين العابدين رستم الجولة الأولى نظراتٌ وتعقبات على كتاب صحيح البخاري ..نهاية الأسطورة
شهدت السنوات الأخيرة في أرض مغرب هجمة شرسة على صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري من قبل أناس مغمورين ليسوا يعرفون في الأوساط العلمية بكبير نتاج علمي، ولا بوافر رصيد أدبي، إنما هم يظهرون طفرة ويختفون طفرة، فكأنما هي أسماء مستعارة أو شخصيات وهمية، أو لعلهم شخصيات موجودة لسنا ندري عن حقيقة ذلك شيئا...لكن الذِّي نعلمه ونتحَقَّقه أنهم ألفوا مقالات أو دراسات أو كتبا ركبوا فيها الشطط، وجانبوا فيها الصواب، وخالفوا فيها الأمة في ثوابتها وأصولها، ودعائم وجودها وكينونتها، ومما يلاحظُ على هذه الدراسات النقدية التي خرجت عن سيد الصنعة، وإمام هذه الطائفة المنصورة من أهل العلم في الإسلام الحافظ الحجة محمد بن إسماعيل البخاري: أولا: هذه الدراسات النقدية عبارة عن قنابل تفجير، وأسلحة تقتيل وتنكيل، لا يراعي أصحابها لأهل العلم فيها حُرمة، ولا يعرفون لهم فضلٌ ولا أسبقية. ثانيا: ولما كانت هذه الدراسات النقدية قنابل تُشعل النيران في كلِّ ما وصلتْ إليه، وتُلهب الأرض الزاهية بالماء والخُضرة- اختار أصحابُها لعناوين كتبهم ودراساتهم عناوين صارخة، وشعارات فاضحة، وكلمات نابية، وألفاظاً عن الأدب عارية، كما تراه فيما قد عنونتْ به خديجة البطار قديما مقالاتها :" البخاري كان بينه وبين الحق حجاب"، و" البخاري وجب ملامُه"، و " صحيح البخاري فيه نظرٌ" وكما صنع محمد بن الأزرق الأنجري في كثيرٍ مما كتبَ في " تنقيح صحيحي البُخاري ومسلم ضرورة" و" أنزلوا البخاري منزلته البشرية" و كما فعل صاحبُ " صحيح البخاري ...نهاية الأسطورة". ثالثا: هذه الدراساتُ النقدية تتدثر بـــــــ" العلمية "، وتتمسَّح بمُسوح " التقدمية"، وتتزيا بلباس " التحديث"، و تُنادي بـــــــ" الانتصار للقرآن الكريم" وأنه الحكَم على السنة النبوية، وأنه ينبغي فهمها على ضوئه، فما أقره القرآن الكريم منها فهو ثابتٌ أصيلٌ، وما لم يثبته وعارضه سقطَ إذْ هو منحولٌ دخيل، ومفترى مكذوب ولو كان في الصحيحين أو أحدهما. رابعا: سلكتْ هذه الدراسات النقدية للسنة النبوية عامة وللإمام البخاري خاصة مسلك المتبجِّح بسلطة العقل على النقل، إذ " العقل " عند أصحاب هذه الدراسات " الحكَم الفصْل " في فهم الحديث النبوي، فما خالف " العقل " من الحديث ولم يفهمه فهو " خرافةٌ " و" أسطورة " و" أكذوبة " و" إسرائيلية "، و " نِحلة غريبة" زيدتْ في " الصَّحيح "، و أُقحمتْ في " المسند الثابت "، و أُدخلتْ من قِبل النُّساخ في " الكتاب المروي "، و نُسبت إلى الإمام المحدِّث الكبير وهو منها براءٌ...ولستُ أجد قولا أشد دلالة على حمُق صاحبه من قول ناشر كتاب الأسطورة في ص12 إن كتاب صحيح البخاري نهاية الأسطورة كتاب العقل!!! يا هذا: عن أيِّ عقلٍ تتحدث؟ عن عقلك أم عن عقل رشيد أيلال؟!! لئن كان عقلك فلقد تبيَّن لنا من تلك الصَّفحات الأربع التِّي قدَّمتَ بها للكتاب أنك هالكٌ في السنة، طاعنٌ فيها، متحججٌ في ذلك بالعودة إلى القرآن..وسيظهر لك فيما يأتي من نقدنا هذا أنه لا تعارض بين الوحيين لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد...ولئن كان مقصودك من قولك عقل رشيد أيلال فسيأتي بيان ضحالة عقله، وقلة عقله، وتشابه عقله بعقل الأُغْيلمة الصِّغار فانتظر إنا معكما من المنتظرين.. خامسا: تغلو بعضُ هذه الدراسات النقدية الموجَّهة سهامُها إلى السنة النبوية عامة وإلى سيِّد المحدثين البخاري خاصة غُلواًّ فاحشا عندما تزعمُ أنَّ شخصية الإمام قد نُسجت حولها رواياتٌ باطلة، ولُفِّقت عنها مناقب وفضائل مُزورة، ترفعها من مرتبة " الإنسان العادي " إلى " مرتبة " الأنبياء والمرسلين"، وهذا لعمرُ الله عينُ الجهل والضلال، إذْ كيف يُتهمُّ أهلُ الجرح والتعديل وميزانهم أدقُّ موازين الأرض غربلةً للرجال، وتمحيصا لأخبارهم، وتدقيقا لأحوالهم – في نسْج هذه الروايات واختلاق هذه الأخبار الواردة في مناقب البخاري، ويُصدِّق هذه الأخبار ألوفُ بل ملايينُ الأعلام شرقا وغربا، ويمضونها مطمئنين، ولما تفيده مستريحين، أفكان هؤلاء خرافين؟ أم كانوا أسطوريين؟ تروج عندهم الخرافة..ويقبل عقلهم الأسطورة؟؟! وإنما جاء هذا الإسلام لمحاربة " الخرافة "، ونبذ " الأسطورة"، وكان في تاريخه العلمي متخصِّصون في ذلك هم أهل الحديث: أدقُّ الناس نظرا، وأنقدهم حديثا، وأشدهم لهجا بالتصحيح والتضعيف، والتعديل والتجريح.. سادسا: هذه الدراسات النقدية للإمام البخاري متأثرة – أظهرت ذلك أو لم تظهره – بما ألفه عنه التيار الحداثي المعاصر في رؤيته للعلم الشرعي قرآنا وسنة، فصاحب صحيح البخاري...نهاية الأسطورة يحتجُّ بكلام لأحمد صبحي منصور ص49 و 50وهو كبير القرآنيين المعاصرين في مصر والشرق الأوسط، وله مدرسة فكرية تعتمد على نسْف السنة النبوية كلها ما ورد منها في البخاري وغيره بعرضها على القرآن الكريم، ورفعُ راية الاعتماد على الكتاب المؤسِّس للإسلام بديلا عن السنة النبوية أكذوبة مفضوحة، وأغلوطة مكشوفة تقال لتروج عند العوام وأشباه المثقفين في هذا العصر، إذ السنة النبوية لا تُضرب بالقرآن الكريم، بل السنة النبوية قرينةُ الكتاب المنزل وسائرة معه في نسَقٍ واحد، وانسجامٍ مُنقطع النظير، فهُما الوَحْيَان اللذان لا يفترقان، والموردان العذْبان اللَّذان لا يتعارضان إلا عند من يدعي حمقا وسفاهة أننا يكفينا القرآن كما زيُن القولُ بذلك للناشر المتبني طبْعَ كتاب الأسطورة فيما قدَّم به للكتاب زورا وبهتانا، وظلما وعدوانا...ص13. سابعا: جرت أغلب هذه الدراسات النقدية على تحكيم مقولات وشعارات تتردد في هذا العصر في المنابر الثقافية وتجري على ألسنة المفكرين المعاصرين – لمعارضة السنة النبوية وطرح ما فيها من معان، وإسقاط الاحتجاج بها، ومن هذه المقولات قيمٌ إنسانية مشتركة بين المؤمن والكَافر، والبَرِّ والفاجر، والمصلح والمفسد، ومن هذه القيم:" قيمة السلام" و" قيمة المحبة والإخاء" و" قيمة الرحمة"- انظر ص 11 من مقدمة ناشر كتاب الأسطورة- فهذه الشعارات الإنسانية والقيم العالمية تشهر في وجه السنة النبوية الصحيحة التي قد يفهم من ظاهرها نوع معارضة لها، فينبري الناقد في هجوم كاسح – قادحا في الحديث النبوي، طاعنا فيمن رواه بخاريا كان غير بخاري... ثامنا: أغلب هذه الدراسات النقدية للسنة النبوية عامة وللبخاري صاحب الصحيح خاصة ينقل بعضها عن بعض، ويصدر الآخر منها عن الأول من غير تمحيص للمنقول، ولا إعمال روية ونظر في المنتسخ المسروق، بل إن هذه الدراسات النقدية يصدِّق بعضُها بعضا، وينصر بعضُها بعضا، وهو تقليد أعمى، وانتكاسة في زمن الإفاقة، وعمىً بعد هداية من ضلال..ألا ترى إلى صاحب كتاب الأسطورة قد انبرى في ص 52 إلى النقل والاعتماد على ما أورده كاتبٌ ليس يعرف حاله ولا يُدرى مقامه من العلم وهو المسمى زكريا أزون في كتابه الشهير" جناية البخاري"...وظني أنَّ الكاتب المغربي، والناقد الألمعي إنما احتاج إلى هذا النزول في نقله بواسطة أزون، لأنه ما كحَّل عينيه بتاريخ الإمام الذهبي ولا بالعقد الفريد لابن عبد ربه وهما المصدران اللذان أوردهما أزون في الخبر الذي ذكره، واحتاج المراكشي ابن أفقنا أن يستعين به – أعني الخبر- لإثبات أن الصحابة أجمعين- كان يطعن بعضهم في بعض..وسيأتي ردُّ ذلك مفصلا في الموضع الذي هو به أملكُ إن شاء الله تعالى.. للحديث بقية وللنقد صلة....وتستمر المعركة..